فصل: العلم يؤيد معنى الوحي وإمكانه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.إمكان الوحي ووقوعه:

مبنى الوحي ومداره على أمرين:
1- وجود موح وهو الله سبحانه وتعالى أو الملك الذي يبلّغ الوحي وينقله من الله إلى الرسل، والملك: جسم نوراني لا يرى، ولكنه قادر على التشكل بالأشكال المختلفة.
2- وجود نفس بشرية صافية صالحة لتلقي الوحي من الله أو الملك.
أما الأول: فالله سبحانه قد قام على وجوده وكماله الدليل العقلي وتواترت عليه الأدلة الآفاقية، والأنفسية، والتنزيلية.
وأما الملائكة، فقد أخبر بهم الأنبياء وجاءت بوجودهم الشرائع والكتب السماوية، وقد استفاض القرآن والسنة بالإخبار عنهم بما لا يدع مجالا للشك في وجودهم، والفلاسفة، والعلماء قديما وحديثا- إلا الشرذمة المادية- يقرون: بوجود عالم غير محسوس، وراء هذا العالم المحسوس، وأن الإنسان ليس هو هذا الجسم المحسوس فحسب، وإنما هو جسم وروح.
أما الثاني: وهو استعداد النبي للتلقي عن الله أو الملك، فلا بعد فيه، إذ الأنبياء لهم من سمو فطرتهم، وصفاء أرواحهم، وإعداء الله سبحانه لهم إعدادا خاصّا: جسمانيّا وروحيّا ما يؤهلهم لتلقي الوحي من الله، أو الملائكة، والفهم منهم، والتجاوب معهم، وليس لنا في هذا الأمر أن نقيس الغائب على الشاهد، أو عالم الروح على عالم المادة.
وإذا ثبت هذان الأمران، فقد ثبت- لا محالة- إمكان الوحي، وأنه لا استحالة فيه.

.العلم يؤيد معنى الوحي وإمكانه:

وإذا ثبت وجود عالم الروح، لم يبق مجال إذا لإنكار وجود الملائكة وقد استفاضت الأخبار بوجودهم، عن الأنبياء والشرائع السماوية.
وقد تمخض العصر الحديث عن علم يسمى علم التنويم الصناعي أو التنويم المغناطيسي وقد أثبت هذا العلم وجود قوة خفية وراء هذا الهيكل الإنساني، وهي الروح، وبهذه القوة الخفية، أو الروح يتسلط المنوّم- بكسر الواو- على المنوّم- بفتح الواو- ويلقي الأول إلى الثاني ما يشاء، ويستجيب الثاني إلى ما يريد الأول، وقد أجريت في هذا تجارب عدة حتى أصبح أمرا مسلما به، وهذا يقرب معنى الوحي إلى حد كبير وقد أصبح هذا شجى في حلوق المادّيين، ولم يجدوا لدفعه سبيلا.
ثم إن بعض المخترعات الحديثة كاللاسلكي، والمذياع، والتلفزيون ونحوها قد أمكن للإنسان بوساطتها أن يبلغ كلامه إلى من هو أبعد منه بآلاف الأميال، فإذا توصل الإنسان على عجزه- إلى هذه المخترعات، أفنستبعد على خالق القوى والقدر، العليم الخبير- أن يبلغ رسله ما يريد بوساطة، أو بغير وساطة وأن يهيئ للموحى إليهم من الوسائل ما يجعلهم مستعدين لتلقي الوحي.

.الدليل على وقوع الوحي:

وإذا ثبت أن الوحي ممكن وقد أخبر بوقوعه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنه واقع وثابت لا محالة.
أما الأخبار بوقوعه فكثيرة في القرآن والسنة الصحيحة الثابتة، فمن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} [سورة النجم: 1- 4] وقوله سبحانه: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ...} [سورة الشورى: 52- 53] وقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} [سورة النساء: 163]، وقوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً} [سورة الجن: 1] إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان ما أوتيته وحيا أوحاه الله، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» رواه الشيخان، وحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم.. وحديث الحارث بن هشام: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي قال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصّد عرقا. رواه البخاري، إلى غير ذلك من الأحاديث المتكاثرة التي تدل بطريق التواتر المعنوي على ثبوت الوحي ووجوده.
وأما صدق الرسول فقد قامت عليه الدلائل المتكاثرة، والمعجزات المتواترة، المعنوية والحسية الدالة على صدق دعوته القائمة مقام قول الله سبحانه: صدق عبدي فيما يبلّغ عنّي.
وقد أورد الملحدون وأعداء الأديان على الوحي شبها، وإليك هذه الشبه وردها.

.الشبه التي أوردت على الوحي المحمدي:

لقد حاول الماديون الذين لا يؤمنون بوجود قوى روحية غيبية وراء المادة، ومن على شاكلتهم ممن يحملون الحقد والضغن للإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم حاول هؤلاء أن يشكّكوا في الوحي المحمدي فنفوا أن يكون وحيا من خارج نفس النبي وقالوا: إنه وحي من داخل نفسه فليس هناك ملك تلقى عن الله ثم ألقى ما جاء به على النبي صلى الله عليه وسلم ولا غير ذلك من أنواع الوحي وإليك هذه الشبهة والرد عليها.

.شبهة الوحي النفسي:

قالوا: نحن لا نشك في صدق محمد في خبره عما رأى وسمع، وإنما نقول: إن منبع ذلك من نفسه، وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال: إنه وراء عالم المادة والطبيعة الذي يعرفه جميع الناس، فإن هذا الغيب شيء لم يثبت عندنا وجوده، كما أنه لم يثبت عندنا ما ينفيه ويلحقه بالمحال، ونحن نفسر الظواهر غير المعتادة بما عرفنا، وثبت عندنا، دون ما لم يثبت، فهذا الموحى الذي أخبر به محمد إنما هو إلهام كان يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج؛ ذلك أن منازع نفسه العالية، وسريرته الطاهرة، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته وترك ما سواها من عبادة وثنية، وتقاليد وراثية رديئة- يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلى في ذهنه، ويحدث في عقله الباطن الرؤى، والأحوال الروحية، فيتصور ما يعتقد وجوده إرشادا إلهيّا نازلا عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثل له رجل يلقنه ذلك، يعتقد أنه من عالم الغيب وقد يسمعه يقول ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند الأنبياء، فكل ما يخبر به النبي من كلام ألقي في روعه، أو عن ملك ألقاه على سمعه فهو خبر صادق عنده، ولكن تفسيره عندنا ما ذكرنا من أن ما تخيله إنما هو نابع من نفسه ومن عقله الباطن.
وضربوا مثلا للوحي النفسي قصة جان دارك الفتاة الفرنسية التي اعتقدت أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها، ودفع العدو عنه، وادعت أنها تسمع صوت الوحي، فأخلصت في دعوتها وتوصلت بصدق إرادتها إلى رئاسة جيش صغير تغلبت به على العدو، ثم ماتت غبّ انتصارها لما خذلها قومها، ووقعت في يد عدوها فألقوها في النار حية، وقد ذهبت تاركة وراءها اسما يذكر في التاريخ، وقد حظيت بتعظيم قومها، وإجلالهم لها، حتى قررت الكنيسة الكاثوليكية قداستها فيما بعد موتها بزمن.
ومما يؤسف أن هذا التصوير الذي يصورون به ظاهرة الوحي قد سرت شبهته إلى كثير من المسلمين المرتابين، الذين يقلدون هؤلاء الماديين في نظرياتهم المادية أو يقتنعون بها، وأغلب هؤلاء من المتعلمين الذين تلقوا العلم في الغرب، وليس عندهم من الثقافة الإسلامية العميقة ما يعصمهم من الانسياق وراء هؤلاء.

.المقدمات الست التي استندوا إليها:

ولأجل أن يؤيدوا فكرة الوحي النفسي ذكروا مقدمات تخيلوها أو تصيدوها زاعمين أنها أساس هذه التشريعات والعلوم التي امتلأ بها عقل النبي الباطن ثم فاضت بها نفسه فقالوا:
أ- إن محمدا كان يصحب عمه أبا طالب في كثير من رحلاته التجارية وأنه استفاد من هذه الرحلات بما كان يسمعه من الأعراب الذين كانوا يسكنون الديار التي يمر عليها كديار ثمود، ومدين وغيرهما، وما كان يسمعه من أحبار اليهود ورهبان النصارى وذلك مثل بحيرى الراهب الذي لقيه في مدينة بصرى بالشام، وقالوا: إنه كان نسطوريّا من أتباع آريوس في التوحيد، وينكر ألوهية المسيح، وعقيدة التثليث، وإن محمدا لابد أن يكون علم منه عقيدته بل غالى بعضهم فزعم أنه كان معلما للنبي ومصاحبا له بعد رسالته.
2- إن ورقة بن نوفل كان من متنصّرة العرب العالمين بالنصرانية وكان يعرف العبرانية، وله علم بالكتب السابقة، وكان قريبا لخديجة رضي الله عنها وهو الذي ذهبت إليه خديجة ومعها النبي لما أخبرها بخبر الوحي وغرضهم بهذا إثبات أن النبي أخذ عنه بعض علم أهل الكتاب.
3- ما كان من انتشار اليهودية والنصرانية في بلاد العرب قبل الإسلام ومن تنصر بعض فصحاء العرب وشعرائهم كقس بن ساعدة الإيادي وأميّة بن أبي الصّلت، وإشادة هؤلاء بما كانوا يسمعونه من علماء أهل الكتاب عن قرب ظهور النبي الذي بشّر به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء وغرضهم بهذا أن النبي استفاد من هؤلاء، واستغل البشارة لنفسه.
4- زعموا أنه كان بمكة أناس من اليهود والنصارى وأنهم كانوا عبيدا أو خدما، وكانوا يسكنون أطرافها.
وكان هؤلاء يتحدثون بالكثير من القصص الذي جاءت به كتبهم فسمع منهم النبي ما سمع واستفاد منهم الكثير مما ذكره من قصص الأولين.
5- ذكروا ما كان من رحلتي قريش: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، واجتماعهم بالأحبار والرهبان في كلّ منهما كلما مروا بدير أو صومعة، وكان هؤلاء يتحدثون بقرب ظهور نبي من العرب، فتعلقت نفسه بما سمع، وظهر ذلك على لسانه بدعوى النبوة.
6- قالوا: إن محمدا توصل إلى ما توصل إليه من عقائد بالخلوة في غار حراء، والانقطاع إلى عبادة الله وحده، والتفكر في خلق السموات والأرض من نجوم وكواكب وسهول ونجود وبحار ذات أمواج، وليل ونهار، وكان لهذا التعبد والتفكر أثرهما في صقل نفس محمد، وامتلاء قلبه بوحدانية الله ونظامه البديع في الكون، وما زال يفكر ويتأمل وينفعل بما يرى ويسمع، ويتقلب بين الآلام والآمال، حتى أيقن أنه هو النبي المنتظر الذي سيبعثه الله لهداية البشر، فتجلى له هذا الاعتقاد في الرؤيا المنامية، ثم قوي حتى صار يتمثل له الملك ويلقنه الوحي في اليقظة.
وأما المعلومات التي جاء بها في هذا الوحي فهي مستمدة من تلك الينابيع التي ذكرناها سابقا، وما هداه إليه عقله وتفكره في التمييز يبن ما صح منها وما لا يصح، ثم تجلى له أنها نازلة من السماء، وأنها خطاب الخالق جلّ وعلا؛ بوساطة الناموس الأكبر، ملك الوحي جبريل عليه السلام الذي كان ينزل على سلفه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى غير ذلك من الأباطيل والتّرهات التي أرادوا بها تقريب فكرة الوحي النفسي وأن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عقيدة، وتشريع وآداب، فهي من ذات نفسه وعقله الباطن لا من شيء خارج عن نفسه، وهو الوحي عن الله جل وعلا.